ملخص كتاب الصراع الفكري في البلاد المستعمرة

يشهد العالم العديد من الصراعات والحروب بين الدول على أكثر من مستوًى. ولعلّ الصراع الفكري هو الذي يبدو غامض ومجهول في أغلب الوقت. إذ تحرّكه أيادٍ خفيةٍ من وراء ستارٍ. فالكاتب المنتمي للدولة المحتلّة قليلًا ما يتعاطف مع أبناء الشّعب المحتلّ، وكثيرًا ما يسخّر قلمه لخدمة الاحتلال. فيحرّض به على قتل الأبرياء وسلب الحقوق وتزييف الحقائق والعبث بالمصطلحات بما يتوافق مع مصالح الاحتلال.

أما الكاتب من أبناء الشعب المحتلّ رغم محاربته للاحتلال بقلمه وفكره، إلّا أنّه يصمت أحيانًا عن جرائم الاحتلال البشعة بحقّ أبناء وطنه وكأنّه يؤيدها. ممّا يجعل من مهمّة التمييز بين الحقّ والباطل مهمّةً صعبةً. فالكمّ الكبير من الأقلام المأجورة، والتي تنهش في جسد الأمة لا يمكن تمييزها بسهولةٍ.

ولذلك يسعى المفكّر العربيّ مالك بن نبي لتوضيح طبيعة هذا الصراع الفكري بين المستعمر والشعب، وكيف يمكن تمييز الأفكار البنّائة من الأفكار الهدّامة؟


قد يهمك ايضاً:


يسعى المستعمر إلى السيطرة على عقول الشعب المحتلّ

يبدأ الصراع الفكري عادةً بين المحتلّ وشعوب البلاد المستعمرة منذ احتلاله لها عسكرياً. فبعد السيطرة على الأرض يسعى المحتلّ إلى السيطرة على العقول، ويحاول جاهدًا إقناع الشعب المحتلّ بقبول فكرة الاستعمار، بل والاندماج فيها أحيانًا.

ومن هنا تبدأ عملية خلق نخبٍ سياسيةٍ تابعةٍ للمستعمر. ينادون بما ينادي به الشعب ظاهريًّا، لكنّهم لا يؤمنون به، ولا يملكون أدوات التنفيذ التي تساعد الشعوب على التخلص من المستعمر، إذ لا يمكنهم تحريك الشعب ضدّه نظرًا لانشغال هؤلاء المفكّرين في الدفاع عن أفكارهم ضدّ من يهاجمها منهم.

لذلك، ينقسم المفكرون إلى تيارين متصارعين لا طائل يرجى من كلّ نظرياتهم، فيكون المفكّر الحرّ وحيداً في حجر الزاوية لا أحد يستمع إليه، تغيب عنه الأضواء عن عمدٍ.

وهكذا يلعب المستعمر دور حقير في تدجين بعض النّخب والرّموز، فيملأ بطونهم وجيوبهم بخيراته ويغدق عليهم امتيازاته. كذلك، يسوّق لهم في وسائل إعلامه الجبارة باعتبارهم أبطالًا قوميين ليلتفّ حولهم الشعب المحتلّ.

أما المقاوم الحقيقيّ فيعدّ له الاستعمار خطةً محكمةً لمقاومة الأفكار المناهضة له. وتبدأ هذه الخطة برصد الأفكار والأيديولوجيات ذات الأغلبية على خريطة البلد المحتلّ. ثم يدفعها في صراعٍ طائفيٍّ فيما بينها، ممّا يؤدّي إلى استنزاف طاقة الشعب في الجدل حولها.

وللمستعمر طرقٌ مختلفةٌ يبني عليها الأفكار التي تصبّ في مصلحته. فقد يستغلّ جهل العامة فيبثّ أفكار تبدو في ظاهرها لمصلحة الشعوب، بينما تصبّ في حقيقتها في مصلحة المستعمر.

وربّما يعزف المستعمر على وتر الوازع الدينيّ للشعب. فيغلق عقولهم تجاه ما يطرحه المصلحون للأفكار الدينية، ويعمد على تشويه مضمونها. ثم يتفرغ المحتلّ لاغتيال خصومه من المفكرين وتدميرهم. فيبدأ الحرب عليهم بالتهميش وصرف الأنظار عن أفكارهم، وقد تنتهي -أحيانًا- بإيذائهم والانتقام منهم. فكيف يدير الاستعمار هذا الصراع؟!

يعزل المستعمر الأفكار المعادية له وينشر أفكاره

يتسم الصراع الفكري في البلاد المستعمرة بالغموض من جهةٍ والفعالية من جهةٍ أخرى. الغموض من حيث أهداف الاستعمار التي يخفيها عن الشعب المحتلّ، والفاعلية في تهميش دور المقاومين ضدّه.

هذا التهميش والعزل يكون بتنفير الرأي العامّ منهم، ثمّ بتنفيرهم هم أنفسهم من القضية التي يناضلون من أجلها. فعندما تظهر فكرةٌ تشكّل خطورةً على الاستعمار، هنا يسخّر الاستعمار عملاءه لشنّ هجومٍ حادٍّ على الفكرة وصاحبها.

بذلك يتحول الصراع من صراعٍ بين المحتلّ والمعارضة إلى خلافٍ فكريٍّ بين أبناء الشعب الواحد، وهكذا يتحقق هدف الاستعمار، بحيث يكون قد نجح في تشويه الفكرة. ومن جهةٍ أخرى يحاول الاستعمار الحفاظ على بعض الرموز السياسية من المقاومة؛ لأنّ في حياتهم فرصةً مواتيةً لتشويه أفكارهم المعادية له.

أمّا التّخلّص منهم يجعل منهم أبطالًا قوميّون، ويحول أفكارهم التي ماتوا في سبيلها إلى أفكارٍ محصّنةٍ ضدّ أي تشويهٍ أو طعنٍ. تمامًا كما حدث مع المفكّر والمقاوم الجزائريّ “بن باديس” الذي أصبحت أفكاره غير قابلةٍ للنقض بعد موته كما كانت في حياته.

ومن هنا يبدأ الاستعمار في تنفيذ المرحلة الثانية، وهي منع الشعب المحتلّ من الاستقلال النّفسيّ. وهذا يتطلب تغذية النعرات الطائفية لدى أبناء الشعب الواحد أثناء الاحتلال، بحيث لو تحرّر الشعب وحقّق الاستقلال يجد نفسه غارقًا في حروبٍ طائفيةٍ. كما حدث بين الهند والباكستان بعد استقلال الهند عن بريطانيا.

فبعد أن ظهرت أول بوادر وجود جبهةٍ موحدةٍ ضدّ الاستعمار البريطانيّ في الهند عام ألفٍ وتسعمئةٍ وستةٍ (1906م)، بدأ المخطّط البريطانيّ بتفتيت القوة البشرية الكبيرة في الهند. ولم يحن موعد استقلال الهند إلا وقد أصبحت قسمين أحدهما إسلاميٌّ وهو الباكستان، والآخر بفكرٍ مناهضٍ للفكر الإسلاميّ وهو الهند. وهكذا ضمن الاستعمار وجود صراعٍ طائفيٍّ دائمٍ بين قسمي الشعب الواحد.

يضطهد المستعمر المكافحين ضدّه ويمنح الامتيازات لعملائه

ربما يوضح العرض السابق حجم الشّر الذي يشكّله الاستعمار على الشعوب، وهذا يبعث على سؤالٍ وجيهٍ: لماذا هذا الشرّ موجودٌ؟ ولماذا دائمًا موجّهٌ إلينا نحن المسلمون؟

هذه الأسئلة تقع ضمن خطةٍ تمّ إعدادها بعنايةٍ من قبل المستعمر، وهي تقوم بالأساس على الجدل حول أشياءٍ لا فائدة منها. مثل الجدل المثار حول طبيعة المستعمر، هل ينتمي للرّأسمالية أم للشيوعية؟

سؤالٌ غير ذي أهميةٍ، ومع ذلك تعقد له المؤتمرات ويسيل له حبر الصحف، أما الشيء المهمّ المتعلق بمقاومة الاستعمار مهما يكن شكله فلا يتمّ التّطرّق إليه. وذلك راجعٌ إلى أنّ نظرة الشعب المحتلّ للمستعمر هي في حدّ ذاتها موضع خلافٍ.

ونظرة الشعوب المستعمرة للمحتلّ تقوم على مذهبين:

  • الأول يرى الاستعمار سبب في صراع فكري وشرًّا مطلقًا يهدد حياة شعب البلاد المستعمرة،
  • وأخرى ترى فيه حامل مصباح التطوّر والحضارة على الأقلّ.

فيغرق الشعب المحتّل في معارك جانبيةٍ تستنزف قواهم وتصرف عقولهم عن الهدف الرئيس المتعلق بمقاومته، والشيء الأهمّ في ذلك الصراع هو الوعي به من الأساس.

فالوعي الجمعيّ للشعب وضميره اليقظ يكون بمثابة حصانةٍ ضدّ كلّ فكرةٍ دخيلةٍ يقف خلفها الاستعمار. كما أنّ الوعي هو السلاح الذي يمنع النخبة من التّعفّن والرّضوخ لشهوة المال وإغراءات المستعمر.

وإذا خسر المستعمر معركة الوعي ينتقل إلى معركةٍ أخرى هي تشويه أفكار المفكّر المناضل ضدّه، فيكون السلاح الأول هو تدمير شخص هذا المفكّر عن طريق تشويه صورته في عين أتباعه أو التّضييق عليه في عمله.

وقد يطال التدمير الدائرة الشخصية المحيطة بالمفكّر من خلال زوجةٍ خائنةٍ أو ابنٍ عاقٍ أو امرأةٍ لعوبٍ تقذف في طريقه فتشغل عقله عن مواجهتهم. وأحيانًا يلجأ الاستعمار لتدمير أفكارٍ بعينها بحجة أنّها غير أخلاقيةٍ أو معارضةٍ لقيم المجتمع.

يجد الاستعمار في الجهل والتّخلّف بيئةً خصبةً لأفكاره

لا يمكن للاستعمار أن ينتصر ويحقّق أهدافه إلا في بيئةٍ تعاني من خللٍ فكريٍّ وأخلاقيٍّ. ولعلّ نشأة فكرة قيام دولة الباكستان في القرن العشرين خيرٌ دليلٍ على ما يعانيه المسلمون من خللٍ وصراع فكريٍّ، وعدم إدراكٍ للعبة المستعمر القذرة.

فقد فرح المسلمون بنشأة دولة الباكستان دون أن يدركوا مقصد المستعمر من هذا التقسيم؛ الذي يهدف إلى تحطيم وحدة دولةٍ ذات تعددٍ ضخمٍ من عددٍ السكان. هنا فكّر تشرشل -رئيس الوزراء البريطانيّ- واستغلّ الخلل الفكريّ عند المسلمين فسعى إلى قيام دولة الباكستان المسلمة؛ بحجّة أنّها تحمي المسلمين الأقلية الذين يأكلون البقرة من الهندوس الأكثرية الذين يعبدونها.

تلك هي لعبة الاستعمار، الاستغلال والكيل بمكيالين ومحاربة مؤسسات النقد الذاتيّ في الدول الواقعة تحت سيطرته. بذلك يتيسر عليه عملية زرع العملاء التابعين له. فيسلّط الضوء على شعاراتهم حتى يلتفّ حولهم الناس، لتكون تلك الشعارات بمثابة المنديل الأحمر الذي يستنزف قوة الثور.

في حين يصرف الأضواء عن مكان المعارك الحقيقية، ويستفرد بالمقاومة الحقيقية فيمزقها بعيدًا عن الأعين وفي هدوءٍ تامٍّ.

وهكذا يكون الاستعمار قبل الثورة يعمل على دعم شعاراتٍ مثل:

  • “الحرية”،
  • و”الاستقلال”،
  • و”السّلام”

دون أن يوضّح الظروف العملية لتحقيق تلك الشعارات في البلاد المستعمرة.

وفي مرحلة ما بعد الثورة يعمل على تشويه تلك الشعارات حتى يستولي على القلوب الشّكّ والندم فيتأسّفون على عصر الاستعمار. كذلك، السلاح والأدوات التي يستخدمها الاستعمار للسيطرة على الشعب قد تتخذ أشكالًا أخرى كما سنرى في السطور الآتية.

يحطّم الاستعمار أفكار المقاومين بتدمير ولائهم للوطن

لا تقتصر أدوات الاستعمار على ما سبق ذكره، فهي حالةٌ متجدّدةٌ تتأقلم مع البيئات المختلفة، بحيث تجد الاستعمار يستخدم مبدأ “المحامي المورّط” الذي يورّط موكّله بدلًا من الدفاع عنه. وتجد ذلك واضحاً عندما يتقدم شخصٌ يحمل أفكارًا معاديةً للاستعمار لمنصبٍ بإحدى الوزارات الحسّاسة.

هنا يستخدم الاستعمار أدواته فيحول دون تولّي هذا الشخص المنصب. بذلك يكون قد حرمه من عمله ومصدر رزقه.

ومن جهةٍ أخرى يعرض عليه عملًا في مؤسسةٍ تابعةٍ للاستعمار براتبٍ مضاعفٍ. هنا يجد الشخص المناضل نفسه بين احتمالين، إما أن يستعدّ لمواجهة قوةٍ استعماريةٍ لا طاقة له بها مع الحفاظ على مبادئه وقيمه المناهضة للاستعمار. أو أن يتخلّى عن قيمه في سبيل الأمان الشخصيّ والمجتمعيّ. وفي كلتا الحالتين يربح الاستعمار المعركة. يخرّس صوتًا معارضًا له أو على الأقلّ يبعده عن الصراع الدائر ليتفرغ للبقية، فهل تنتهي خطط الاستعمار عند هذا الحدّ؟!

يشوّه الاستعمار الأفكار المعادية له ويسخر منها

يجب أن نعترف ببراعة الاستعمار في إدارة الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، واستخدام الأسلحة المناسبة التي تساعده على الانتصار في معركته. سلاحٌ آخر من الأسلحة التي يستخدمها الاستعمار في الحرب يكمن في التشويه اللغويّ للشعارات واللعب بالمصطلحات التي تتضمن فكرةً معاديةً له والسخرية من رمزيتها.

فالاستعمار يتعامل مع الفكرة كما لو كانت كائنًا حيًّا، ممّا يعني أنّ أيّ بترٍ أو إضافةٍ لعضوٍ يغيّر من حقيقة ذلك الكائن. فلو افترضنا أنّ فكرةً معينةً تقوم على مبدأ “الحرية والاستقلال”، فمهمّة الاستعمار تكمن في فكّ الترابط بين العنصرين ليصبح مثلًا “الحرية والسلام”.

ومن خلال تلك الإضافة يتمّ العبث بالفكرة حتى تفقد حقيقتها ومصداقيتها لدى الناس.وربّما يلجأ الاستعمار لاستبدال فكرةٍ أكثر خطورةً بأخرى أقلّ ضررًا، وتارةً يستخدمون البتر لها عن طريق تجاهل الفكرة موضوع الخطر وصرف الأنظار عنها بأشياءٍ أخرى.

فتجده على سبيل المثال حين يقوم بعمليات قمعٍ وحشيةٍ ضدّ مظاهراتٍ رافضةٍ له يزامنها مع وقائع مثيرةٍ في مجالٍ آخر مثل مشاحناتٍ بين لاعبي كرة قدمٍ، أو فضيحةٍ أخلاقيةٍ لشخصيةٍ عامةٍ، بذلك تصرف الأنظار عن جرائم الاستعمار، ويوجّه الرأي العامّ نحو موضوعٍ آخر غير ذي أهميةٍ.

الخاتمة

الصراع الفكريّ الذي يخوضه الاستعمار ضدّ شعب البلاد المستعمرة يكون خاضعًا ليدٍ خفيةٍ تعبث من وراء ستارٍ. هذه اليد تجيد التأقلم مع الظروف كافةً وعلى المستويات كافةً وفي بيئاتٍ مختلفةٍ.

فمنذ سيطرة المستعمر على الأرض بالقوة، وحتى الاستقلال والتحرر، يشنّ المستعمر هجمةً فكريةً على عقول شعب البلد التي احتلّها بهدف تغييب وعيهم ودفعهم لقبول فكرة الاستعمار.

كما يعمل على عزل الأفكار المعادية له بكلّ الوسائل المتاحة، بدايةً من صرف الأنظار عنها، ونهايةً بسحق أصحابها إذا استدعى الأمر لذلك.